منتديات المبدعين للابد

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

شبابي اجتماعي ثقافي علمي


    تعريف بالحبكة وتحذير

    avatar
    مهند الباشا
    Admin


    عدد المساهمات : 115
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 09/04/2010
    العمر : 34

    تعريف بالحبكة وتحذير Empty تعريف بالحبكة وتحذير

    مُساهمة  مهند الباشا الإثنين أبريل 19, 2010 5:57 pm

    3-تعريف بالحبكة وتحذير


    الحبكة في المسرحية هي التي تحول لذائذ الحكاية إلى (قصة مسرحية). فهي التي تشبك وقائع الحكاية في تعارض عنيف بين رغبات الشخصيات. وتعريفها الذي هو جوهرها هو (أن تترابط أحداثُ القصة بتسلسل منطقي). أي أنه حدث كذا ولذلك حدث كذا. أما القصة في الرواية فتأتي بتسلسل زمني. أي أنه حدث كذا ثم حدث كذا. وهذا التسلسل المنطقي هو الذي يخلق التشويق لأنه هو الذي يصل بالحكاية إلى منطقة حرجة تتأزم فيها أحوال الشخصيات ويبلغ الصراع ذروته التي يسأل فيها المتفرج نفسه: ماذا سيحدث بعد ذلك؟

    وهذا السؤال المدهش: (ماذا سيحدث بعد ذلك) لقي هجوماً عنيفاً من النقاد الجامدي القلب. فقد اعتبروه مؤدياً إلى التعلق الزائد بالحكاية يصرف المتفرج عن مراميها. وما علموا أن هذا السؤال هو اللهفة الإنسانية للحكايات. وهو الذي يجعل الناس يتلهفون لرؤية المسرحيات كما كانوا يتلهفون للالتفاف حول الراوي أو الحكواتي. وهؤلاء النقاد الجامدو القلوب يعاملون المسرحية كما يعاملون قطعة نفيسة يُخشى عليها الكسر إن تزاحم الناس عليها أو إن لم تكن درساً في الغوص على نفسية الشخصيات تحليلاً وتدقيقاً. وحجتهم في ذلك أن الحبكة المتقنة الصنع بلغت ذروتها مع الكاتب الفرنسي (سكريب) الذي حوَّل المسرحية إلى نوع من الرواية البوليسية فنسيه تاريخ المسرح. وهذا صحيح. لكن الحبكة المتقنة الصنع استلمها العملاق النرويجي إبسن فامتلك ناصيتها وملأها بالفكر والتحليل والمعالجات الإنسانية، فقفز بفن الدراما قفزة كبيرة خلَّصتها من كثير من شوائبها. وإذا أردنا أن تعود للمسرح نكهتُه وتلهف الناس عليه، فقد وجب علينا أن نعود إلى ذلك السؤال المدهش: ماذا سيحدث بعد ذلك؟ ومفتاح هذا السؤال هو الحبكة.

    وتتألف الحبكة من مراحل ثلاث هي: (التمهيد - الوسط - النهاية). ففي التمهيد يقدم الكاتب شخصياته ويرمي الخيوط الأولى للحكاية. وفي الوسط يزج الشخصياتِ في لحظة تأزم الصراع. وهنا تأتي العقدة أو أزمة المسرحية التي يمسك فيها الكاتب بأنفاس المتفرج ويجعله يتساءل بلهفة: ماذا سيحدث بعد ذلك؟. وفي النهاية تنحلُّ الأزمات وينتهي الصراع وتُختَتم الحكاية.

    إن هذا التنسيق للحبكة بمراحلها الثلاث هي الصيغة التي وصلت إليها المسرحية في القرن التاسع عشر بعد طول تجوال على خشبات المسارح عبر القرون وعلى امتداد البلدان. وهي التي يصفها النقاد بأنها (البناء التقليدي للمسرحية). وهي التي ركبتها الواقعية. وهي التي تمرد عليها المؤلفون منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى نهاية القرن العشرين. وهي التي استمات المؤلفون العرب حتى يتقنوها منذ أوائل تعرفهم على المسرح حتى أواسط القرن العشرين. وهي التي حاولوا التمرد عليها منذ منتصف ذلك القرن. فخلقوا
    - بتقليدها وبمحاولات الخروج عليها - فترة الازدهار في مسرحهم.

    ورغم أن تاريخ المسرح عرف محاولات التمرد على تسلسل وترابط عناصر الحبكة، فإنها كانت أكبر من كل محاولات الخروج عليها. فهي القبضة الحديدية التي تمسك بخناق كل مسرحية شاء الكاتب أم أبى لأنها الشكل الوحيد الذي لا بد أن تسير عليه المسرحية. وكل محاولات الخروج عليها كانت عبارة عن تعديل لأركانها أو تقديماً وتأخيراً لهذه الأركان، أو كانت قطعاً لتسلسلها المتلاحم. حتى المسرحيات التي لا حكاية فيها لأنه لا شيء يحدث، لم تستطع الخروج عن قبضة الحبكة الحديدية. فهي مبنية بإحكام التتابع المنطقي للأحداث. فإذا خلت من مراحلها الثلاث: البداية والوسط والنهاية بهذا الوضوح الجلي، فقد كان لها بداية لا شيء يحدث فيها. ووسط لا شيء يحدث فيه. ونهاية لا شيء يحدث فيها.

    وإذا كان المؤلفون العرب قد ادَّعوا الانفلاتَ من سيطرة الحبكة فقد كانوا كاذبين في دعواهم. فإن المسرحيات الكبيرة التي كتبوها كانت ذات حبكة محكمة التسلسل بذلك الرباط المنطقي الصارم.

    ولا أريد الدخول في تفصيل مراحل الحبكة الثلاث: البداية والوسط والنهاية. لكني أريد الوقوف عند (البداية) التي تسمى التمهيد. فهي أصعب أركانها ومقتل جمالها وخاصة حين انتشرت الواقعية. ففي الواقعية لا بد أن تقوم الشخصيات في المسرحية بأفعال موازية لأفعالها في الحياة. فحين يدخل الرجل بيته، يقوم بخلع حذائه ومعطفه. ويلبس الحذاء واللباس المنـزليين. وينادي زوجته أو ابنته. ولا بد أن ترحب به الزوجة أو الابنة المستقبلة. ولا بد أن تسأله عن شؤون النهار وعن سعيه فيه. ولا بد أن يستتبع ذلك رداً من الرجل. ولا بد أن يكون هذا الرد متضمناً انزعاجاً أو سروراً. وقد يسوقهما الحديث إلى الكلام عن شخص آخر وآخر.

    صحيح أن هذا الحديث هو المفتاح الأول للتعرف على الشخصيات وأطراف المشكلة التي ستبنى عليها الشخصيات والحكاية، لكن الواقعية التي طالبت بأن يكون الفعل المسرحي شبيهاً بأفعال الحياة، أوقعت التمهيد في الإطالة. والإطالة تهدد المسرحية بالوقوع في الملل. وهذه الإطالة هي الدودة السامة التي نخرت في ركن التمهيد في المسرحية الواقعية وفي الأنواع التي تلتها لأن كتابها يرغبون أن يماثلوا أفعالَ الحياة على عكس ما فعله كتاب الكلاسيكية والرومنسية. والمثال على ذلك - كما يقول أحد النقاد الظرفاء - أنه لا يكاد المتفرج يجلس على مقعده حتى يكون (الملك لير) قد وزع ملكه على بناته، في حين يحتاج الكاتب الواقعي أو المعاصر إلى زمن طويل يتثاءب فيه المتفرج حتى يكون الملك لير قد فعل ذلك.

    ولو سألنا عن مصدر هذا التطويل للتمهيد لوجدناه عند ستانسلافسكي الذي وضع أسس الإخراج المسرحي بعد أن استمدها من الواقعية ثم رسَّخها وقيَّد الناس بها. وإليكم الدليل.

    في الدرس الذي يلقيه ستانسلافسكي على طالبَيْه حول الدخول إلى مسرحية (عطيل)، ينتهي إلى إلقاء التعليمات التالية:

    (ادخلا وانظرا حولكما للتأكد من عدم وجود أحد يراقبكما أو يسترق السمع. بعد ذلك أحيطا بنظركما جميعَ نوافذ القصر. ترى؟ هل يتسرب منها النور؟ هل يمكن من خلالها رؤية أحد من سكان البيت؟ فإذا خُيِّل إليكما أن ثمة أحداً يقف وراءها، فحاولا أن تجتذبا انتباهه إليكما. من أجل ذلك لا يكفي أن نصرخ. بل يجب أن نتحرك أيضاً ونلوح بأيدينا. قوما بمثل هذا الكشف والتحقق في أماكن مختلفة وذلك بالتوجه إلى نوافذ مختلفة. ابلُغا في تنفيذ هذه الأفعال حداً من البساطة والطبيعية الحياتية يدفعكما إلى الإحساس بالصدق والإيمان بهذا الصدق فيزيولوجياً. وعندما تتأكدان بعد عدد من المحاولات أنه ما من أحد يسمعكما، فكِّرا بإجراءات أكثر فعالية وأقوى حسماً. اجمَعا عدداً كبيراً من الحصى الصغيرة واقذفا النوافذ به. طبعاً لن تصيبا الهدف دائماً. ولكن عندما تنجحان في ذلك، راقبا بإمعان لترصُّدِ ظهور أحدٍ ما من سكان البيت. إن إيقاظ أحدهم يكفي لإيقاظ الآخرين. هذه المناورة لن تنجح معكما على الفور. وستضطران لتكرارها بالتوجه إلى نوافذ أخرى. أما إذا لم تُجْدِ محاولتُكما هذه أيضاً، فابحثا عن وسائل وأفعال أقوى. حاولا تقوية الضجة والطرْقِ لتعزيز الصراخ والصوت. من أجل ذلك يجب استخدام الأيدي والتصفيق بالأكف. اخبطا بقدميكما على بلاط المدخل...)([5])

    في هذا النص - وهو أسلوب فني في العمل المسرحي - يستغرق مشهد إيقاظ أهل ديدمونة لإخبارهم بزواج ابنتهم من عطيل مدة لا تقل عن عشر دقائق إن لم يكن أكثر. وهذه المدة للتمهيد إلى الحدث الرئيسي جميلة لأنها تشوق المتفرج لما سيحدث بعد ذلك. فهي تبشر بالحدث الخطير التي وقع إذ تزوج المغربيُّ العبدُ السابق من سيدة نبيلة الأرومة وما أفظع ذلك. ولا شك أن منهج ستانسلافسكي في التمثيل غزا العالم كله وترك آثاراً خيِّرةً على العالم كله. وقد استمده من مذهب الواقعية التي أرادت أن تتسم بصفة (الطبيعية والحياتية)، والتي كان إبسن وتشيخوف قد أرسيا دعائمها. ثم تلقفها الكتاب المسرحيون في العالم حتى صارت أسلوباً مكيناً في التأليف المسرحي. وكانت هذه الطبيعية الحياتية ممكنة فيما سبق الهزيع الأخير من القرن العشرين حين كان العرض المسرحي يستغرق ساعتين أو ثلاثاً. لكنها اليوم صارت أسلوباً مُهلِكاً للكتابة التي ستتحول إلى عرض مسرحي. وإذا كان على الصراع أن يمضي سريعاً حاداً كأنه الشهاب الناري، فإن الوصول إلى ذروته يجب أن لا يتمطط في التمهيد الذي كان سمة كتاب الواقعية. وليتذكر القارئ الكريم النصوص الواقعية منذ إبسن حتى آرثر ميللر وتنيسي ويليامز، وسوف يجد هذه النصوص يستغرق التمهيدُ فيها مدة طويلة كان من سَبَقَ الواقعيةَ يتجنبها. وليتذكر القارئ الكريم أيضاً النصوص العربية الشامخة، وسوف يجدها تطيل مدة التمهيد لتخلق المناخ المناسب لاندفاع الحكاية نحو الذروة واحتدام الصراع.

    لكن كاتب اليوم لا يملك إلا زمناً قصيراً ينجز فيه حكايته بتمهيدها وعقدتها وانحلال صراعها. ولن يستطيع ذلك إذا اضطر إلى تقديم التمهيد في مدة لا تقل عن عشر دقائق. وسبيله إلى ذلك أن يكون التمهيد سريعاً قصيراً لا يتقيد بتفاصيل الحياة كاملة، بل يوحي بها بسرعة حتى ينتقل إلى الحدث الرئيسي.

    فليحذر الكاتب من الوقوع في فخ هذه الواقعية الدقيقة. ولتنكسر أصابعُ الناقد وأقلامُه إن دفع الكتّابَ إليها. فإن نجا منها الكاتب أمكنه أن يدخل إلى حرارة الحكاية بسرعة. ويساعد صراعَه على التحلي بالصفات والخصائص التي ذكرناها. وليعلم الكاتب والناقد أن الواقعية لا تعني (نقل الواقع) بل الإيحاءَ به. فيكفي أن يدخل ذاك الرجل بيته وأن ينادي امرأته أو أخته ويدخل بها في صلب الحكاية بأسرع وقت ممكن. وسوف يكون القارئ أو المتفرج مسروراً بهذا الدخول السريع. فهو يجنِّبه المللَ والتثاؤب.

    خصائص القصة المسرحية وعلاقتها بالحبكة


    إذا كان للقصة في المسرحية كل هذه الأهمية، فإن ثمة خصائص تحقق لها هذه الأهمية التي وصفناها لها، وثمة كيفيةٌ تتحقق بها فعاليةُ هذه الأهمية في البناء المسرحي. وبعبارة أخرى، ثمة جماليات للقصة عند تحولها إلى حبكة درامية.

    والقصة في المسرحية لا تكون جيدةً إلا إذا كانت جميلةً تُثير لدى المتفرج الترقُّبَ والتوجس ولذةَ المتابعة، وأن تمتلئ بالحيوية والحرارة، وأن تكون مشحونةً بالصراع الذي يحبس الأنفاس. وهذه القصة الجيدة الجميلة هي التي تتقطَّعُ أعناق الكتاب للوصول إليها. وهي التي لا يمكن الوصول إليها إلا إذا امتازت بخصائص لا بد من الاتِّصاف بها رغم أنف جميع المحاولات النقدية التي حاولت تقليلَ أهميتها، وهي التي لا بد من عودة كتابنا المسرحيين إليها إذا أرادوا أن يثبتوا قدمهم في ميدان التأليف المسرحي، وهي التي أدى الافتقارُ إليها إلى هبوط كثيٍر من نصوصنا المسرحية.

    أول هذه الخصائص أن تكون غريبةً مثيرةً تقرُب من حالة الاستثناء عن القاعدة مما يخلق حالةَ الدهشة والتوفز ولذةَ المتابعة عند المتفرج. ولو راجعنا كبريات المسرحيات في تاريخ العالم لوجدناها قصصاً نادرةَ الحدوث في الواقع. فليس كلُّ واحد يقتل أباه ويتزوج أمه. وقليلاً ما يقف أحد الأخوين في صفٍّ ويقف الأخ الثاني في صفٍّ مضادٍّ لـه ويتحاربان ويقتلان بعضهما. ومن النادر أن نجد في تاريخ العروش والملوك من يوزع مُلْكَه بين بناته الثلاث وهو على قيد الحياة. ونادراً ما نجد شاعراً طويل الأنف يعشق فتاة جميلة فلا يبوح لها بحبه لأنها تحب شاباً وسيماً. وإذا به يكتب القصائد الغرامية ويعطيها لغريمه الوسيم حتى يتقرب إليها.

    أتقول إن هذه الغرائب مقتصرة على المسرحيات التي استمدَّت قصتَها من الأساطير وحكايات التاريخ؟ تعال إذن إلى المسرحيات التي استمدَّت قصتَها من وقائع الحياة اليومية. وسوف تجد أن كبرياتها قامت أيضاً على غرائب القصص. فليس كلُّ طبيب في إحدى المدن يكتشف جرثومةً في مياه الشرب ويكون أخوه رئيسَ بلدية تلك المدينة ومستفيداً من مشروعٍ على المياه نفسها. وإذا بالأخ الثاني ينهش لحمَ أخيه حياً حتى يورده موارد الهلاك كما في مسرحية إبسن (عدو الشعب). وليس كلُّ زوج يدفع زوجته إلى حضن رجل آخر لكي يصون شرفَها كما فعل أوستروفسكي في (لكل عالم هفوة). وليس من العادي أن يجتمع في أحد الأقبية أكثرُ من عشرة أشخاص بينهم اللص والنبيل السابق والشحاذ والطالب والحذّاء كما فعل غوركي في (الحضيض).

    ولا شكَّ أن كتاب العصر الحديث يجدون صعوبةً كبيرة في شحن مسرحياتهم بالغريب الشاذِّ من الأحداث والوقائع لأن موضوعاتهم مأخوذةٌ من الحياة اليومية العادية التي هي المصدرُ الوحيد لمادة قصصهم. وإذا كانت الأساطير والملاحم والحكايات القديمة تعطي الغرابةَ مما يسهِّل على الكاتب تحقيقَ هذه الخصيصة، فإن الحياة اليومية العادية تتأبّى على هذه الغرابة. ومن هنا ندرك نقطة هامة هي أن كتاب المسرح منذ اتجاهه نحو الواقعية كانوا أمهر في صناعة المسرح ممن سبقهم حين استطاعوا أن يستخلصوا الغريبَ من العادي. ومن هنا أيضاً نقف عند نقطة تأثَّر بها أجيالُ الكتاب المسرحيين العرب المحدَثين فأصابهم التأذّي دون أن يكون لهم كبيرُ ذنبٍ في هذا التأثر المؤذي. وهذه النقطة هي ترجمةُ الكثير من المسرحيات الواقعية ذات القصة العادية غير الغريبة إلى العربية تحت اسم (المسرح العالمي). فهذه التسمية توحي بأن هذه المسرحيات تحتلُّ مكانة رفيعةً في تاريخ المسرح. والحقيقة أنها مسرحيات عادية لا تصلح مقياساً للمسرحية الجيدة التي تتجاوز حدود الزمان والمكان. وقد أدّى احترامُها إلى الاعتقاد أن القصة العادية تصلح مادة للمسرحية. فنتج عن ذلك كثيرٌ من المسرحيات العربية التي لا تحتفظ بقيمة كبيرة لسبب بسيط جداً وبليغ جداً هو أنها اعتمدت قصصاً عادية ليس فيها (الغرابة) التي هي جوهر القصة المسرحية.

    ويستطيع الكاتب أن يأتي بغرائب القصص من الحياة اليومية العادية حين يأتي من الحياة المعاصرة بالنادر من وقائعها. ولن يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا أدرك أن (محاكاة الواقع) التي هي الأصل في المسرحيات الواقعية ليست ما (وقع فعلاً) بل هي (ما يمكن أن يقع). فبهذا المفتاح السحري يفتح الكتاب المسرحيون مغاليق الغرائب من الأحداث ويدفعون قصص مسرحياتهم إلى نقطة الدهشة التي تمتاز بها المسرحيات ذات القصة التاريخية أو الأسطورية.

    ثاني هذه الخصائص أن يكثر في المسرحية (الفعل) وأن يترافق باستمرار مع (الحوار). والمسرحيات الناجحة هي التي تعجُّ بالنشاط حتى كأنها خلية نحل. فإذا كثر الجدلُ والنقاشُ وقلَّ الفعل، انصرف المتفرجُ عن المسرحية لأنه لم يأتِ لسماع محاضرة فكرية مهما كانت مهمة. وإذا كثُرَ الفعلُ وقلَّ الحوار فقد يستطيع العرضُ المسرحي أن يشدَّ انتباهَ المتفرج، لكنه يكون قد خرج به من عرض مسرحي إلى نوع من السيرك أو الأكروبات. ولن يكون مثلُ هذا النص قادراً على الوقوف بنفسه قوياً لأنه هجر أحدَ أهم أركان المسرحية وهو الحوار الجيد الجميل. ولنتذكّر دائماً أن المسرحية في نهاية الأمر نوعٌ من الأدب الذي تقوم فيه اللغة بصوغ الحكاية وتحديد مسار القصة. ولنأخذ مثالاً على ذلك مسرحية (هملت) العاجز عن الفعل لأنه متردد، والذي يمضي في المسرحية كثيرَ الثرثرة. ولا يقل أصدقاؤه عنه ثرثرةً تكاد في نهاية الأمر أن تجعل المسرحية حواراً محضاً. لكن هذه الثرثرة الكثيرة تترافق بعدد كبير من الأفعال الكبيرة. فهو يلاحق شبح أبيه. ويقوم بالتحقيق على طريقة القصة البوليسية ليتأكد من أن عمه قتل أباه. ويعيد تمثيل الجريمة فيوغل في القصة البوليسية على طريقة تمثيل الجريمة. ويصطنع الجنون فيتيح لـه ذلك أن يأتي بأفعال كثيرة تحول المسرحية إلى خلية نحل. ويتمادى في الأفعال حتى يقتل أحد الوزراء وحتى تنتحر حبيبته. ثم يبارز خصمه ويموت قتلاً معه.

    وقد افتُتِنَ أغلبُ كتاب المسرح العربي منذ بداية تسعينات القرن العشرين بـ (الفعل) افتتاناً شديداً. ومع أنهم يقدمون نصاً مسرحياً قائماً على الحوار، فإن هذا النص أقرب إلى السيناريو منه إلى الحوار المسرحي. ولعل انجرافَهم وراء لعبة التلفزيون الخادعة وجريَهم وراء (الصورة) هو الذي حوَّل الكتابة عندهم من (نص مسرحي) إلى (سيناريو مسرحي). فخرجوا من حومة المسرح مأسوفاً عليهم لأنهم ضيَّعوا موهبتهم حين تجاهلوا العناصر الأبدية لفن كتابة المسرح. والطريف في الأمر أن الفئة المسيطرة من هؤلاء الكتاب هم مخرجون تحولوا إلى كتاب. ولذلك تجد الإعلانات عن العروض المسرحية أنى ذهبتَ في أرجاء الوطن العربي على الشكل التالي: (نص وإخراج فلان). وحين حوَّلوا النص المسرحي إلى سيناريو يخدم رؤيتهم الإخراجية ساروا في طريق (تطويع النص للعرض). وهذه الطريق تناقض تاريخ المسرح كله. وما أشد التباينَ بين كتاب هذا العقد وما تلاه، وبين كتاب الفترة التي سبقته. فقد كان الإخراج يقصد إلى إبراز عناصر القوة في النص المسرحي. ولنتذكر أن الكتاب الذين كانوا مخرجين في عقود ستينات وسبعينات وثمانينات القرن العشرين كانوا قلة في كل أرجاء الوطن العربي. وكثيراً ما كان التعامل بين المخرج والمؤلف يتم من خلال (تحسين النص المسرحي) لإبرازه مادةً أساسية في العرض المسرحي. ولنا في التعاون بين فواز الساجر وسعد الله ونوس وبين ممدوح عدوان ومحمود خضور خيرُ نموذجٍ على تحسين النص المسرحي وإلغاءِ ما هو زائد فيه باعتباره نصاً مسرحياً لا باعتباره مادة كلامية لعرض مسرحي. وهنا لا بد من أن نهتف بكتابنا المسرحيين بأعلى صوت: (احذروا من أسلوبكم المريض. وكونوا كتاباً لا تهتمون بالإخراج. فإذا أردتم أن تُخرِجوا نصوصكم بعد ذلك فاحرصوا على تحسين نصوصكم المسرحية من خلال إحياء القصة المسرحية على خشبة المسرح. فبتقديم الحكاية المدهشة فحسب، تكتبون نصوصاً مسرحية).

    ثالث هذه الخصائص أن تكون الأفعال والأقوال في بناء القصة مرتكزةً إلى الأسباب النفسية بحيث يبدو الكلام والفعل ضرورةً لا بد منها. فقتلُ الرجل لأبيه أو خيانتُه لوطنه أو هجرُه لحبيبته أفعالٌ لا بد أن يسبقها كشفٌ نفسي بالحوار حتى تأتي منطقيةً معقولة مقبولة مهما بدا من شذوذها في الحياة الواقعية.

    وعندما يهتم الكاتب بالأسباب النفسية لحوار وأفعال الشخصيات، فإنه يدفعها - غصباً عنها - إلى التغير والتطور. ويمنح المسرحيةَ حلاوة وتشويقاً هما السببان اللذان من أجلهما يذهب المتفرج إلى المسرح. فإذا لم يحدث هذا التغير والتطور بدت المسرحية راكدةً في بركة آسنة من الدوران في المكان. وهذا التطوير والتغيير هو الذي يخلق ما يسمى في بناء المسرحية (التصاعد الدرامي). ويقوم هذا التصاعد على ركنٍ ركينٍ في الأفعال والأقوال هو شحذُ وصقلُ وتحديدُ الفعل وردِّ الفعل. وهو ما يسمى في مصطلحات النقد المسرحي (سجلَّ الضغط والاستجابة).

    إن دفع القصة في هذه السبيل الوحيدة الصارمة هي التي تحوِّل الحدثَ الغريب الذي يجب أن تقوم عليه المسرحية من مجرد قصة إلى (قصة مسرحية). وهي التي تعود بالمسرحية إلى منابعها الأولى وتحفظ لها أخصَّ خصائصها وهي أنها الشكل الأدبي الوحيد الباقي من مجالس السمر القديمة وأماكن الاحتفالات العامة. وعلى الكتاب المسرحيين أن يدركوا بكل عمق وإصرار أنهم ورثة الرواة والحكواتية القدامى، وأنه مطلوبٌ منهم في عصر التكنولوجيا والسينما والتلفزيون أن يحافظوا - مستعينين بوسائل التكنولوجيا - على صفتهم القديمة هذه. وهاهو العالم كلُّه أمامنا يؤكد هذه المهمة لكتاب المسرح والعاملين فيه. فقد اخترع العالم في عقد تسعينات القرن العشرين (المسرح التجريبي) الذي هجر هذا الدورَ الافتتاني لقصص المسرح، وتخلى عن تقديم المدهش المثير من الحكايات. واستخدم بديلاً عنها تقنيات التكنولوجيا ظناً منه أن المتفرج يندهش بها. وإذا به ينهزم أمام المتفرجين هزيمة نكراء. وإذا به - بعد أكثر من خمسة عشر عاماً على ولادته - يعجز في جميع أنحاء العالم وفي وطننا العربي عن تقديم نص مسرحي واحد قوي. فكان الموجةَ المسرحيةَ الوحيدة في تاريخ المسرح التي ليس لها نصوص قوية. ولأنه دون نصوص، فإنه دون ملامح. ولأنه دون ملامح، فإن عروضه متشابهة أنى قُدِّمت. ولأنها متشابهة، فقد فقدت خصوصيتَها التي يتقدم بها كلُّ عرضٍ مسرحي إلى أبناء قومه فيفتنهم ويدهشهم. ولأنها دون خصوصية، فإنها لم تترك آثارَها الفكرية على المتفرجين. ولأنها لم تترك هذه الآثار، فإنها تبدو معلقة في الفراغ. ولأنها معلقة في الفراغ، فإنها ستبقى في الفراغ دون أن تدخل سياق التاريخ الأدبي والإنساني والفني للبشرية.

    إن هذه الخصائص الثلاث للقصة المسرحية والتي تجعلها ذات تأثير وحيوية وجمال، لا قيمة لها إذا لم توضع في بناء محكم متسلسل يسميه نقاد المسرح (الحبكة المسرحية). ولا أريد الحديث عن صناعة الحبكة فهي معروضةٌ بوفرةٍ في كتب النقد المسرحي. ولكني ألخِّصها بأنها هي التي تضع جميعَ عناصر الحكاية من الشخصيات والحوار والأفعال ضمن طرفي الصراع المسرحي الذي لا يكون المسرحُ مسرحاً إلا به. ولن تُحقِّقَ الحبكةُ وضعَ الصراع في طريق التصاعد إلا إذا كانت متقنةً شديدةَ الإتقان. ولن تكون متقنةً إلا إذا حذف الكاتب كلَّ فعل أو قول يؤخر تصاعد الصراع المسرحي وكلَّ فعل أو قول لا يزيد شخصياته إيضاحاً وتوتراً.

    ولا يظنَّنَ أحد أن الحبكة بهذا الشكل هي الحبكة التقليدية. وآهِ ثم آهِ من الرأي النقدي الشديد الخطأ الذي حرَّم على كتابنا المسرحيين اعتناءَهم بالحبكة بحجة أنها تقليدية. فهي أساس المسرح الذي لا يستطيعه إلا يدٌ صارمةٌ صَناعٌ أدركت خصائصَ المسرح وطبيعةَ وجوده كما أدركت خصائص القصة المسرحية التي نؤكد مرة بعد مرة أنها الشكل الوحيد الباقي من الاحتفاليات الجمعية التي تُروى فيها الحكايات. فليرجِعْ كتابُنا إلى إتقان الحبكة. وليعلموا أنها صديقهم المحبُّ وليست عدوَّهم كما أقنعتهم الكتابات النقدية السقيمة التي تتجاهل ماهية المسرح وتتجاهل تاريخه ولا تهتم بجمهوره. وليعلموا أن جميع التيارات التجديدية التي حطمت المسرح التقليدي الأرسطي قامت على تقسيم مراحل الحبكة ولم تقم أبداً على تقطيع أوصالها، وقامت على حبكات قوية صارمة لم تخرج أبداً عن صفاتها. وكل ما فعلته أنها وضعتها في سياق جديد كان أشدَّ إتقاناً لها. أتريدون الدليل على ذلك؟ ارجعوا إذن إلى نصوص بريخت القوية مثل (الأم شجاعة) أو (غاليلو غاليلي). فسوف تجدون فيهما حبكةً قوية متينة هي من أبرز حبكات المسرحية في تاريخها الطويل. وارجعوا إلى مسرحية (انتظار غودوت) التي يعتبر النقاد أنها النموذج الأمثل لا لهجران القصة المثيرة فحسب، بل ولهجران الحبكة المتقنة أيضاً، ويضعونها في رأس قائمة (المسرح الثوري) الذي انصبَّت ثوريتُه على النهج الأرسطي أي التقليدي. وسوف تكتشفون أن هذه المسرحية تقوم على قصة مدهشة غريبة فاتنة هي قصة رجلين ينتظران وهماً لا يأتي. والغرابة هنا تكمن في حكاية الانتظار المتلهف الذي يجعلك تقول كل لحظة: الآن سيأتي المنتظَر فإذا به لا يأتي. وإذا ضرب الكاتبُ الحبكةَ التقليدية بأنه لا شيء يحدث في المسرحية، فإن هذا الشيء الذي لا يحدث موضوعٌ في سياق حبكة صارمة غايتُها أن تؤكد باستمرار أنه لن يحدث شيء. ولأن كثيراً من الكتاب لم ينتبهوا إلى غرابة القصة المثيرة وإلى الإتقان الشديد للحبكة، فقد فشلت جميع النصوص التي حاولت السير على نهجها لأنها خلت من غرابة القصة وإتقان الحبكة.

    إنني لا أدعو الكتاب إلى العودة إلى البناء التقليدي للمسرحية. لكني أقول لهم: إن السبيل الوحيد للعودة إلى كتابة النص القوي هو ركوب متن الحبكة القوية المحكمة البناء. فإن أتقنه الكاتب فقد امتلك صناعة المسرح. وهي التي أثبت تاريخ المسرح أنها جوهره وسرُّ قوته. وبكلمة موجزة: إنها صديق

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد نوفمبر 24, 2024 7:48 am